سورة النبأ - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النبأ)


        


{عمَّ} أي عن أي شيء- خفف لفظاً وكناية بالإدغام، وحذف ألفه لكثرة الدور والإشارة إلى أن هذا السؤال مما ينبغي أن يحذف، فإن لم يكن فيخفى ويستحى من ذكره ويخفف {يتساءلون} أي أهل مكة لكل من يسأل عن شيء من القرآن سؤال شك وتوقف وتلدد فيما بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضي الله عنهم، ولشدة العجب سمي جدالهم وإنكارهم وعنادهم- إذا تليت عليهم آياته وجليت بيناته- مطلق سؤال.
ولما فخم ما يتساءلون عنه معجباً منهم فيه، بينه بقوله إعلاماً بأن ذلك الإيهام ما كان إلا للإعظام: {عن النبأ} أي من رسالة الرسول وإتيانه بالكتاب المبين، وإخباره عن يوم الفصل، والشاهد بكل شيء من ذلك الله بإعجاز هذا الحديث، وبوعده الجازم الحثيث. ولما كان في مقام التفخيم له، وصفه تأكيداً بقوله: {العظيم} مع أن النبأ لا يقال إلا لخبر عظيم شأنه، ففي ذلك كله تنبيه على أنه من حقه أن يذعن له كل سامع ويهتم بأمره، لا أن يشك فيه ويجعله موضعاً للنزاع؛ وعظم توبيخهم بقوله: {الذي هم} أي بضمائرهم مع ادعائهم أنها أقوم الضمائر {فيه مختلفون} أي شديد اختلافهم وثباتهم فبعضهم صدق وبعضهم كذب، والمكذبون بعضهم شك وبعضهم جزم وقال بعضهم: شاعر، وبعضهم: ساحر- إلى غير ذلك من الأباطيل، وذلك الأمر هو أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي أهمه البعث بعد الموت اشتد التباسه عليهم وكثرت مراجعتهم فيه ومساءلتهم عنه مع عظمه وعظم ظهوره، والعظيم لا ينبغي الاختلاف فيه بوجه، فإن ذا المروءة لا ينبغي له أن يدخل في أمر إلا وهو على بصيرة فكيف به إذا كان عظيماً فكيف به إذا تناهى عظمه فكيف به إذا كان أهم ما يهمه فإنه يتعين عليه أن يبحث عنه غاية البحث ويطلب فيه الأدلة ويفحص عن البراهين ويستوضح الحجج حتى يصير من أمره بعد علم اليقين إلى عين اليقين من حين يبلغ مبلغ الرجال إلى أن يموت فكيف إذا كان بحيث تتلى عليهم الأدلة وتجلى لديه قواطع الحجج وتجلب إليه البينات وهو يكابر فيه ويماري، ويعاند ويداري.
قال الإمام أبو جعفر بن الزبير: سورة النبأ أما مطلقها فمرتب على تساؤل واستفهام وقع منهم وكأنه وارد هنا في معرض العدول والالتفات، وأما قوله: {كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون} [النبأ: 4- 5] فمناسب للوعيد المتكرر في قوله: {ويل يومئذ للمكذبين} [المرسلات: 19] وكأن قد قيل: سيعلمون عاقبة تكذيبهم، ثم أورد تعالى من جميل صنعه وما إذا اعتبره المعتبر علم أنه لم يخلق شيء منه عبثاً بل يعتبر به ويستوضح وجه الحكمة فيه، فعلم أنه لا بد من وقت ينكشف فيه الغطاء ويجازي الخلائق على نسبة من أحوالهم في الاعتبار والتدبر والخضوع لمن نصب مجموع تلك الدلائل، ويستشعر من تكرار الفصول وتجدد الحالات وإحياء الأرض بعد موتها، جرى ذلك في البعث واطراد الحكم، وإليه الإشارة بقوله:
{كذلك نخرج الموتى} [الأعراف: 57] وقال تعالى منبهاً على ما ذكرناه {ألم نجعل الأرض مهاداً} [النبأ: 6] إلى قوله: {وجنات ألفافاً} [النبأ: 16] فهذه المصنوعات المقصود بها الاعتبار كما قدم، ثم قال تعالى: {إن يوم الفصل كان ميقاتاً} [النبأ: 17] أي موعداً لجزائكم لو اعتبرتم بما ذكر لكم لعلمتم منه وقوعه وكونه ليقع جزاؤكم على ما سلف منكم فويل يومئذ للمكذبين ويشهد لهذا القصد مما بعد من الآيات قوله تعالى لما ذكر ما أعد للطاغين: {إنهم كانوا لا يرجون حساباً وكذبوا بآياتنا كذاباً وكل شيء أحصيناه كتاباً} [النبأ: 27- 29] ثم قال بعد: {إن للمتقين مفازاً حدائق وأعناباً} [النبأ: 31- 32] وقوله بعد: {ذلك اليوم الحق} وأما الحياة الدنيا فلعب ولهو وإن الدار الآخرة لهي الحيوان، وقوله بعد: {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً} [النبأ: 40] انتهى. ولما كان الأمر من العظمة في هذا الحد قال مؤكداً لأن ما اختلفوا فيه وسألوا عنه ليس موضعاً للاختلاف والتساؤل بأداة الردع، فقال تهديداً لهم وتوكيداً لوعيدهم: {كلا} أي ليس ما سألوا عنه واختلفوا فيه بموضع اختلاف أصلاً، ولا يصح أن يطرقه ريب بوجه من الوجوه فلينزجروا عن ذلك وليرتدعوا قبل حلول ما لا قبل لهم به.
ولما كان كأنه قيل: فهل ينطقع ما هم فيه؟ أجاب بقوله مهدداً حاذفاً متعلق العلم للتهويل لأجل ذهاب النفس كل مذهب: {سيعلمون} أي يصلون إلى حد يكون حالهم فيه في ترك العناد حال العالم بكل ما ينفعهم ويضرهم، وهذا عن قريب بوعد لا خلف فيه، ويكون لهم حينئذ عين اليقين الذي لا يستطاع دفاعه بعد علم اليقين الذي دافعوه، وعظم رتبة هذا الردع والتهديد والزجر والوعيد بقوله: {ثم كلا} أي أن أمره في ظهوره رادع عن الاختلاف في أمره {سيعلمون} أي بعد الموت بعد علمهم قبله ما يكون من أمره بوعد صادق لا شك فيه، ويصير حالهم إذا ذاك حال العالم في كفهم عن العناد، وهم بين ذلول وذليل وحقير وجليل، فأما من اخترناه منه للإيمان فيكون ذلولاً، ومن أردنا شقاءه بالكفران فتراه ناكساً ذليلاً، ويشترك الكل بالذوق في حق اليقين، وقد كان هذا كما قال الجليل بعد زمن قليل، عندما أوقعتهم أيام الله وأرغمت منهم الأنوف وأذلت الجباه، وقراءة ابن عامر على ما قيل عنه بتاء الخطاب في الوعيد وأدل على الاستعطاف للمتاب.
ولما حقق لهم أمره تحقيق من هو على غاية الوثوق بما يقول، دل على ذلك بما لا يحتمل شكاً ولا وقفة أصلاً، فقال مقرراً لهم ومنكراً عليهم التساؤل بما ندب إليه من التأمل وقرر به من النظر في باهر آياته وغرائب مخلوقاته التي أبدعها من العدم دلالة تامة عظمية على كمال القدرة مع تمام الحكمة الموجب للقطع بكل ما نبهت عليه الرسل من الشرائع والبعث والجزاء بادئاً بما هم له أشد ملابسة وهو الظرف: {ألم نجعل} أي بما لنا من العظمة {الأرض مهاداً} أي فراشاً لكم موطئاً مذللاً يمكن الاستقرار عليه لتتصرفوا فيها كما شئتم {والجبال} أي تعرفون شدتها وعظمتها وعجزكم عن أقل شيء من أمورها {أوتاداً} تثبتها كما أن البيت لا يثبت إلا بأوتاده، قال الأفوه الأودي:
والبيت لا يبتنى إلا له عمد *** ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
وذلك لئلا تميد بكم فإنها معلقة على فضاء العلم ممسكة بيد القدرة، فلولا الجبال لعظم ثقلها لأنها بمنزلة السفينة العالية الفارغة على متن البحر فهي في غاية الحركة لا سيما إذا عظمت الريح فإنها حينئذ لا يستقر عليها قائم ولا يثبت قاعد ولا نائم، فالجبال بمنزلة الأمتعة الثقيلة التي تنزلها في الماء فتحفظ عن كثرة التقلب فكيف يصح بوجه أن يتوقف في إخبار من هذه قدرته لا سيما إذا كان ذلك المخبر به مما ركز سبحانه أمره في الفطر الأولى وقرر صحته في العقول التقرير الأوضح الأجلى.
ولما ذكر بما في الظرف الذي هو فرشهم من الدلالة على تمام القدرة، أتبعه التذكير بما في المظروف وهو أنفسهم لتجتمع آيات الأنفس والآفاق فيتبين لهم أنه الحق فقال: {وخلقناكم} أي بما دل على ذلك من مظاهر العظمة {أزواجاً} طوالاً وقصاراً وحساناً ودماماً وذكراناً وإناثاً لجميع أصنافكم على تباعد أقطارهم وتنائي ديارهم لتدوم أنواعكم إلى الوقت الذي يكون فيه انقطاعكم.
ولما ذكر ما هو سبب لبقاء النوع، ذكر ما هو سبب لحفظه من إسراع الفساد فقال: {وجعلنا} أي بما لنا من العظمة {نومكم} الذي ركبنا البدن على قبوله {سباتاً} أي قطعاً عن الإحساس والحركة التي أتعبتكم في نهاركم مع الامتداد والاسترسال إراحة للقوى الحيوانية والحواس الجثمانية وإزاحة لكلالها مع أنه قاطع لكمال الحياة، فهو مذكر بالموتة الكبرى والاستيقاظ مذكر بالعبث، قال الزجاج: السبات أن ينقطع عن الحركة والروح فيه.


ولما ذكر النوم، اتبعه وقته الأليق به مذكراً بنعمة الظرف الزماني بعد التذكير بالظرف المكاني، فقال دالاً بمظهر العظمة على عظمه: {وجعلنا الّيل} أي بعد ذهاب الضياء حتى كأنه لم يكن {لباساً} أي غطاء وغشاء ساتراً بظلمته ما أتى عليه عن العيون كما يستره اللباس لتسكنوا فيه عن المعاش {وجعلنا النهار} أي الذي آيته الشمس {معاشاً} أي وقتاً للتقلب الذي هو من أسباب التحصيل الذي هو من أسباب المعاش، وهو العيش ووقته وموضعه، مظهراً لما ستره الليل، فالآية من الاحتباك: ذكر اللباس أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً والمعاش ثايناً دليلاً على حذف ضده أولاً.
ولما ذكر المهاد وما فيه، أتبعه السقف الذي بدورانه يكون الوقت الزمان وما يحويه من القناديل الزاهرة والمنافع الظاهرة لإحياء المهاد ومن فيه من العباد فقال: {وبنينا} أي بناء عظيماً {فوقكم} أي عاماً لجميع جهة الفوق، وهي عبارة تدل على الإحاطة {سبعاً} أي من السماوات {شداداً} أي هي في غاية القوة والإحكام، لا صدع فيها ولا فتق، لا يؤثر فيها كر العصور ولا مر الدهور، حتى يأتي أمر الله بإظهار عظائم المقدور.
ولما ذكر السقف: ذكر بعض ما فيه من أمهات المنافع فقال دالا بمظهر العظمة على عظمها: {وجعلنا} أي مما لا يقدر عليه غيرنا {سراجاً} أي نجماً منيراً جداً {وهاجاً} أي هو مع تلألئه وشدة ضيائه حار مضطرم الاتقاد وهو الشمس، من قولهم: وهج الجوهر: تلألأ، والجمر: اتقد.
ولما ذكر ما يمحق الرطوبة بحرارته، أتبعه ما يطفئ الحرارة برطوبته وبرودته فينشأ عنه المأكل والمشرب، التي بها تمام الحياة ويكون تولدها من الظرف بالمهاد والسقف، وجعل ذلك أشبه شيء بما يتولد بين الزوجين من الأولاد، فالسماء كالزوج والأرض كالمرأة، والماء كالمني، والنبات من النجم والشجر كالأولاد فقال: {وأنزلنا} أي مما يعجز غيرنا {من المعصرات} أي السحائب التي أثقلت بالماء فشارفت أن يعصرها الرياح فتمطر كما حصد الزرع- إذا حان له أن يحصد، قال الفراء: المعصر، السحابة التي تتحلى بالمطر ولا تمطر كالمرأة المعصرة وهي التي دنا حيضها ولم تحض، وقال الرازي: السحائب التي دنت أن تمطر كالمعصرة التي دنت من الحيض {ماء ثجاجاً} أي منصباً بكثرة يتبع بعضه بعضاً، يقال: ثجه وثج بنفسه.
ولما ذكر بدايته، أتبعها نهايته فقال: {لنخرج} أي بعظمتنا التي ربطنا بها المسببات بالأسباب {به} أي الماء تسبيباً {حباً} أي نجماً ذا حب هو مقصوده لأنه يقتاته العباد، صرح به لأنه المقصود وبدأ به لأنه القوت الذي به البقاء كالحنطة والشعير وغيرهما {ونباتاً} يتفكهون ويتنزهون فيه وتعتلفه البهائم. ولما كان من المشاهد الذي لا يسوغ إنكاره أن في الأرض من البساتين ما يفوت الحصر، عبر بجمع القلة تحقيراً له بالنسبة إلى باهر العظمة ونافذ الكلمة فقال: {وجنات} أي بساتين تجمع أنواع الأشجار والنبات المقتات وغيره {ألفافاً} أي ملتفة الأشجار مجتمعة بعضها إلى بعض من شدة الري، جمع لف كجذع، قال البغوي: وقيل: هو جمع الجمع، يقال: جنة لفاء، وجمعها لف- بضم اللام، وجمع الجمع ألفاف. وتضمن هذا الذي ذكره المياه النابعة الجارية والواقفة، فاكتفى بذكره عن ذكرها، قال مقاتل: وكل من هذا الذي ذكر أعجب من البعث.


ولما ذكر ما دل على غاية القدرة ونهاية الحكمة فدل قطعاً على الوحدانية لأنه لو كان التعدد لم تكن الحكمة ولم تتم القدرة، فأثمر المحبة لمن اتصف بذلك، فأنتج للطائع الشوق إلى لقائه والترامي إلى مطالعة كمال نعمائه، وللعاصي ما هو حقيق به من الخوف من لقائه ليرده ذلك عن إعراضه وإبائه، أتبع ما أعلم أنه ما ذكره إلا للدلالة على النبأ العظيم في لقاء العزيز الرحيم، فقال منتجاً عما مضى من الوعيد وما دل على تمام القدرة مؤكداً لأجل إنكارهم: {إن يوم الفصل} أي الذي هو النبأ العظيم، وتقدم الإنذار به في المرسلات وما خلق الخلق إلا لجمعهم فيه وإظهار صفات الكمال ليفصل فيه بين كل ملبس فصلاً لا شبهة فيه ويؤخذ للمظلوم من الظالم {كان} أي في علم الله وحكمته كوناً لا بد منه جعل فيه كالجبلة في ذوي الأرواح {ميقاتاً} أي حداً يوقت به الدنيا وتنتهي عنده مع ما فيها من الخلائق.
ولما ذكره، ذكر ما فيه تعظيماً له وحثاً على الطاعة فقال مبدلاً منه أو مبيناً له: {يوم} ولما كان الهائل المفزع النفخ، لا كونه من معين، بنى للمفعول قوله: {ينفخ} أي من نافخ أذن الله له {في الصور} وهو قرن من نور على ما قيل سعته أعظم ما بين السماء والأرض وهي نفخة البعث وهي الثانية من النفخات الأرض كما مر في آخر الزمر، ولذلك قال: {فتأتون} أي بعد القيام من القبور إلى الموقف أحياء كما كنتم أول مرة لا تفقدون من أعضائكم وجلودكم وأشعاركم وأظفاركم وألوانكم الأصلية شيئاً يجمعكم من الأرض بعد أن تمزقتم فيها، واختلط تراب من بلي منكم بترابها وتراب بعضكم ببعض، وتمييز ذلك وجمعه وتركيبه كما كان وإعادة الروح فيه يسير عليه سبحانه وتعالى كما فعل ذلك كله من نطفة بعد أن فعله في آدم عليه السلام من تراب لا أصل له في الحياة، حال كونكم {أفواجاً} أي أمماً وزمراً وجماعات مشاة مسرعين كل أمة بإمامها، روى الثعلبي وابن مردويه عن البراء رضي الله عنهم- وقال شيخنا ابن حجر في ترجمة محمد بن زهير في لسان الميزان: إنه ظاهر الوضع- أن معاذاً رضي الله عنه سأل عن هذه الأفواج فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أمتي تحشر على عشرة أصناف: على صور القردة، وعلى صور الخنازير، وبعض منكسون يسحبون على وجوههم، وبعض عمي وبعض صم بكم، وبعض يمضغون ألسنتهم، فهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع، وبعض منقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعض مصلوبون على جذوع من نار، وبعض أشد نتناً من الجيف، وبعض ملبسون جباباً سابغة من قطرن لازقة بجلودهم، فسرهم بالقتات وآكلي السحت وأكلة الربا والجائرين في الحكم والمعجبين بأعمالهم والعلماء الذين يخالف قولهم فعلهم والمؤذين للجيران والساعين بالناس للسلطان، والتابعين للشهوات المانعين حق الله تعالى والمتكبرين خيلاء».
ولما ذكر الآية في أنفسهم ذكر بعض آيات الآفاق، وبدأ بالعلوي لأنه أشرف فقال بانياً للمفعول لأن المفزع مطلق التفتيح، ولأن ذلك أدل على قدرة الفاعل وهوان الأمور عليه: {وفتحت السماء} أي شقق هذا الجنس تشقيقاً كبيراً، وقرأ الكوفيون بالتخفيف لأن التكثير يدل عليه ما سبب عن الفتح من قوله: {فكانت} أي كلها كينونة كأنها جبلة لها {أبواباً} أي كثيرة جداً لكثرة الشقوق الكبيرة بحيث صارت كأنها لا حقيقة لها إلا الأبواب.
ولما ذكر السقف، ذكر أقرب الأرض إليه وأشدها، فقال على طريقة كلام القادرين أيضاً: {وسيرت} أي حملت بأيسر أمر على السير {الجبال} على ما تعلمون من صلابتها وصعوبتها في الهواء كأنها الهباء المنثور، وعلى ذلك دل قوله: {فكانت} أي كينونة راسخة {سراباً} أي لا نرى فيها إلا خيالاً يتراءى وهي سائرة تمر مر السحاب ثم تخفى لتناثر أجزائها كالهباء- يا لها من عظمة تجب لها القلوب وتتعاظم الكروب.
ولما بين أن يوم الفصل هو النبأ العظيم بعد أن دل عليه وذكر ما فيه من المسير، ذكر ما إليه من الدارين المصير، فقال بعد التذكير بما في الجبال من العذاب بحزونتها وما فيها من السباع والحشرات والأشجار الشائكة والقواطع المتشابكة وغير ذلك من عجائب التقدير مؤكداً لتكذيبهم: {إن جهنم} أي النار التي تلقى أصحابها متجهمة لهم بغاية ما يكرهون {كانت} أي جبلة وخلقاً {مرصاداً} أي موضع رصد لأعداء الله ترصدهم فيها خزنة النار، فإذا رأوهم كردسوهم فيها، ولأولياء الله ترصدهم فيها خزنة الجنة لإنجائهم من النار عند ورودها أو هي راصدة بليغة الرصد للكفار حتى صارت مجسدة من الرصد لتجمع أصحابها فلا يفوت منهم واحد كالمطعان لكثير الطعن، والمكثار للمبالغ في الإكثار، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن على جسر جهنم سبعة مجالس يسأل عند أولها عن شهادة أن لا إله إلا الله، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثاني فيسأل عن الصلاة، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثالث فيسأل عن الزكاة فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع فيسأل عن الصوم، فإن جاء به تاماً جاز إلى الخامس فيسأل عن الحج، فإن جاء به تاماً جاز إلى السادس فيسأل عن العمرة فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع فينسأل عن المظالم، فإن خرج منها وإلا قيل: انظروا فإن كان له تطوع تكمل به أعماله. فإذا فرغ انطلق به إلى الجنة.
ولما كان درء المفاسد أولى من جلب المصالح، قدم ذكر المخوف فقال: {للطاغين} أي المجاوزين لحدود الله {مآباً} أي مرجعاً ومأوى بعد أن كان الله ذرأهم لها فكأنهم كانوا فيها ثم هيأهم للخروج منها والبعد عنها بفطرهم الأولى، ثم بما أنزل الله من الكتب وأرسل من الرسل فكأنه بذلك أخرجهم منها، ثم رجعوا إليها بما أحدثوا من التكذيب.

1 | 2